الجهل الجماعي و موقف المتفرج في حياتنا اليومية Pluralistic Ignorance and the Bystander Effect
البارحة ليلا.. طفل عمره حوالي خمس سنوات، يمشي سريعا أمام صفوفنا في صلاة التراويح، يذهب و يعود و هو ينظر لوجوه المصلين بخطى سريعة في غاية التوتر، الإمام يقرأ القرآن...
يقف قريبا مني، على بعد خطوات، و في لحظات يبدأ صوت أنفاسه المتقطعة بالعلو شيئا فشيئا... و يصدر منه صوت منخفض يقترب من الأنين، صوت أعرفه جيدا، صوت بكاء الأطفال الممزوج بالرعب، و أعلم أنه يسبق المرحلة التالية و هو الانفجار بالبكاء و الصراخ...
فكرت بأن أباه سيأتي في أي لحظة، ترددت فالناس من حولي كلهم يهمون بالركوع، ركعت معهم ثم قمنا من الركوع و يتصاعد الأنين المكتوم، تذكرت أمرا قرأته سابقا عن الجهل الجماعي Pluralistic Ignorance و يقود إلى تصرفك كمراقب فقط bystander effect... قطعت صلاتي و مشيت إليه، "لا تخف، أتبحث عن أبيك؟".... النظرة على وجهه متجمدة كما هي شفتاه... "نعم"...
جلسنا على عتبة المسجد و نحن ننظر إلى المصلين لكن ساقه ترتجف و تهتز دون توقف بشكل غير إرادي، "لا تخف سينتهي الإمام قريبا و نخبره أن ينادي أباك"... تحدثنا قليلا عن شيء آخر فعاد يلتقط أنفاسه شيئا فشيئا... انتهى الإمام بدأ الناس بالخروج، و شاهد أباه من الخلف يهم بأن يقوم من مكانه "هيو هيو"، ركض إليه و تسمر بجانبه في سعادة...
لماذا لم يقم أحد ممن كان أقرب إلى الطفل بتهدئة روعه، أعود بكم إلى ما قرأته في كتاب أو اثنين في بعض فصول متفرقة عن حالة "الجهل الجماعي" و "موقف المراقب السلبي" Pluralistic Ignorance and bystander effect و الدراسات الاجتماعية في تصرف الأفراد بطريقة سلبية في ظروف كهذه و صدق أو لا تصدق، في ظروف تهدد حياة أفراد أمامهم و سبب السلبية في غاية الغرابة...
بدأت سلسلة من الدراسات في أميريكا لدراسة ذلك بعد حادث أليم في منتهى البشاعة تم في وضح النهار عندما تم طعن إمرأة في أحد الشوارع المزدحمة في نيويورك و كانت تصرخ المرأة و تركض بينما يلاحقها القاتل و يطعنها حتى توفت، و لم يقم أحد بمساعدتها و لا حتى بالاتصال بالشرطة، ممن رأووها من نوافذ مساكنهم...
بشاعة الجريمة هزت أميركا و تحدثت الصحف عن موت الضمير و الانقطاع عن الناس، ثم بدأ باحثون بدراسة تصرف الأفراد بشكل منهجي للإجابة على التساؤل هل فعلا يتصرف الناس بأنانية مفرطة في المدن الكبيرة أم أن هناك عواملا أخرى تجعل الناس يتصرفون بسلبية في ظروف تتطلب منهم المساعدة.
الغريب في نتائج الدراسات هو أن الشخص قد يقوم بتقديم المساعدة عندما يكون وحده في موقف يتطلب منه المساعدة بينما لا يقوم بتقديم المساعدة عند وجود أشخاص آخرين، وجدوا أن الفرد ينظر إلى أفعال الناس من حوله ليقيم كيف يتصرف هو، فإذا وجدهم لا يقومون بفعل أي شيء إفترض أن الأمر لا يستدعي منه القيام بأي شيء و أن ذلك هو التصرف الصحيح، أو أن أحدا آخر سيقوم بفعل شيء ما، عقلية القطيع...
من الأمثلة على ذلك من الدراسات الاجتماعية التي وردت بكتابين هما Tipping Point و Influence, دراسة يقوم فيها الباحثون بمراقبة أفعال أشخاص يمرون أمام غرفة فندق مغلقة ينبعث من أسفل بابها دخان وفق حالات و ظروف مختلفة، فوجدوا أنه إذا صممت التجربة بحيث أنه تم الترتيب مع ممثلين يمرون من أمام الباب و لا يعيرون الموضوع أي اهتمام أمام الأشخاص الذين تتم دراسة رد فعلهم فإنهم في الغالب لا يفعلون أي شيء، بينما يختلف الأمر تماماً إن كان هناك شخص واحد يمر أمام الباب فيقوم بالمساعدة أو طلب المساعدة و هناك دراسات أخرى عديدة تصب بشكل عام في اتجاه واحد و هو أن الشخص إذا وجد في مجموعة و تعرض لموقف ما فإنه يقوم بتحديد موقفه و ما هو التصرف الصحيح بناءا على تصرفات الناس من حوله، فإن شاهدت رجلا على رصيف الشارع مثلا مستلقيا و يصرخ من شدة الألم و لكن سبقك عدة أشخاص مروا من أمامه و لم يتوقفوا للمساعدة و لا حتى للسؤال فإنك غالبا ستتصرف مثلهم و هذا بالضبط ما حصل في إحدى التجارب بل حتى في واحدة من الحالات الحقيقية التي توفي فيها شخص أصيب بنوبة قلبية في الشارع العام.
أمران يجب أن تضعهما في البال دائماً، الأول من توصيات هذه الدراسات، إن واجهك موقف شبيه فاحتجبت للمساعدة، لا تطلب المساعدة بشكل عام من كل الناس حولك، و لكن ركز على شخص واحد أشر إليه و تكلم معه فذلك يزيد من فرص تقديم المساعدة لك بشكل شبه مؤكد بينما في الحالة الأولى قد لا يلتفت إليك أحد.
الأمر الثاني، عندما تمر بأي موقف ترى فيه الناس يفترضون أن هذا أمر طبيعي أو أن أحدا آخر قد قام بالاتصال لطلب المساعدة أو أن أحدا ما سيفعل شيئا، فهناك احتمال كبير جداً أن أحدا لم يقم بشيء و أن الموقف أمامك خطأ لم يقم أحد بتصحيحه ليس لأنه صواب أو لأن شيئا ما يبدو غريبا أو لأن أحدا آخر قام بعمل اللازم، بل لأنك تعيش لحظة من لحظات "الجهل الجماعي" فقم بالتصرف فورا دون تأخير.
يقف قريبا مني، على بعد خطوات، و في لحظات يبدأ صوت أنفاسه المتقطعة بالعلو شيئا فشيئا... و يصدر منه صوت منخفض يقترب من الأنين، صوت أعرفه جيدا، صوت بكاء الأطفال الممزوج بالرعب، و أعلم أنه يسبق المرحلة التالية و هو الانفجار بالبكاء و الصراخ...
فكرت بأن أباه سيأتي في أي لحظة، ترددت فالناس من حولي كلهم يهمون بالركوع، ركعت معهم ثم قمنا من الركوع و يتصاعد الأنين المكتوم، تذكرت أمرا قرأته سابقا عن الجهل الجماعي Pluralistic Ignorance و يقود إلى تصرفك كمراقب فقط bystander effect... قطعت صلاتي و مشيت إليه، "لا تخف، أتبحث عن أبيك؟".... النظرة على وجهه متجمدة كما هي شفتاه... "نعم"...
جلسنا على عتبة المسجد و نحن ننظر إلى المصلين لكن ساقه ترتجف و تهتز دون توقف بشكل غير إرادي، "لا تخف سينتهي الإمام قريبا و نخبره أن ينادي أباك"... تحدثنا قليلا عن شيء آخر فعاد يلتقط أنفاسه شيئا فشيئا... انتهى الإمام بدأ الناس بالخروج، و شاهد أباه من الخلف يهم بأن يقوم من مكانه "هيو هيو"، ركض إليه و تسمر بجانبه في سعادة...
لماذا لم يقم أحد ممن كان أقرب إلى الطفل بتهدئة روعه، أعود بكم إلى ما قرأته في كتاب أو اثنين في بعض فصول متفرقة عن حالة "الجهل الجماعي" و "موقف المراقب السلبي" Pluralistic Ignorance and bystander effect و الدراسات الاجتماعية في تصرف الأفراد بطريقة سلبية في ظروف كهذه و صدق أو لا تصدق، في ظروف تهدد حياة أفراد أمامهم و سبب السلبية في غاية الغرابة...
بدأت سلسلة من الدراسات في أميريكا لدراسة ذلك بعد حادث أليم في منتهى البشاعة تم في وضح النهار عندما تم طعن إمرأة في أحد الشوارع المزدحمة في نيويورك و كانت تصرخ المرأة و تركض بينما يلاحقها القاتل و يطعنها حتى توفت، و لم يقم أحد بمساعدتها و لا حتى بالاتصال بالشرطة، ممن رأووها من نوافذ مساكنهم...
بشاعة الجريمة هزت أميركا و تحدثت الصحف عن موت الضمير و الانقطاع عن الناس، ثم بدأ باحثون بدراسة تصرف الأفراد بشكل منهجي للإجابة على التساؤل هل فعلا يتصرف الناس بأنانية مفرطة في المدن الكبيرة أم أن هناك عواملا أخرى تجعل الناس يتصرفون بسلبية في ظروف تتطلب منهم المساعدة.
الغريب في نتائج الدراسات هو أن الشخص قد يقوم بتقديم المساعدة عندما يكون وحده في موقف يتطلب منه المساعدة بينما لا يقوم بتقديم المساعدة عند وجود أشخاص آخرين، وجدوا أن الفرد ينظر إلى أفعال الناس من حوله ليقيم كيف يتصرف هو، فإذا وجدهم لا يقومون بفعل أي شيء إفترض أن الأمر لا يستدعي منه القيام بأي شيء و أن ذلك هو التصرف الصحيح، أو أن أحدا آخر سيقوم بفعل شيء ما، عقلية القطيع...
من الأمثلة على ذلك من الدراسات الاجتماعية التي وردت بكتابين هما Tipping Point و Influence, دراسة يقوم فيها الباحثون بمراقبة أفعال أشخاص يمرون أمام غرفة فندق مغلقة ينبعث من أسفل بابها دخان وفق حالات و ظروف مختلفة، فوجدوا أنه إذا صممت التجربة بحيث أنه تم الترتيب مع ممثلين يمرون من أمام الباب و لا يعيرون الموضوع أي اهتمام أمام الأشخاص الذين تتم دراسة رد فعلهم فإنهم في الغالب لا يفعلون أي شيء، بينما يختلف الأمر تماماً إن كان هناك شخص واحد يمر أمام الباب فيقوم بالمساعدة أو طلب المساعدة و هناك دراسات أخرى عديدة تصب بشكل عام في اتجاه واحد و هو أن الشخص إذا وجد في مجموعة و تعرض لموقف ما فإنه يقوم بتحديد موقفه و ما هو التصرف الصحيح بناءا على تصرفات الناس من حوله، فإن شاهدت رجلا على رصيف الشارع مثلا مستلقيا و يصرخ من شدة الألم و لكن سبقك عدة أشخاص مروا من أمامه و لم يتوقفوا للمساعدة و لا حتى للسؤال فإنك غالبا ستتصرف مثلهم و هذا بالضبط ما حصل في إحدى التجارب بل حتى في واحدة من الحالات الحقيقية التي توفي فيها شخص أصيب بنوبة قلبية في الشارع العام.
أمران يجب أن تضعهما في البال دائماً، الأول من توصيات هذه الدراسات، إن واجهك موقف شبيه فاحتجبت للمساعدة، لا تطلب المساعدة بشكل عام من كل الناس حولك، و لكن ركز على شخص واحد أشر إليه و تكلم معه فذلك يزيد من فرص تقديم المساعدة لك بشكل شبه مؤكد بينما في الحالة الأولى قد لا يلتفت إليك أحد.
الأمر الثاني، عندما تمر بأي موقف ترى فيه الناس يفترضون أن هذا أمر طبيعي أو أن أحدا آخر قد قام بالاتصال لطلب المساعدة أو أن أحدا ما سيفعل شيئا، فهناك احتمال كبير جداً أن أحدا لم يقم بشيء و أن الموقف أمامك خطأ لم يقم أحد بتصحيحه ليس لأنه صواب أو لأن شيئا ما يبدو غريبا أو لأن أحدا آخر قام بعمل اللازم، بل لأنك تعيش لحظة من لحظات "الجهل الجماعي" فقم بالتصرف فورا دون تأخير.
المواقف التي تمر بها قد لا تكون دوما مهددة للحياة، و لكنها قد تكون مؤذية لمشاعر الناس من حولك، في يوم نشاط في إحدى الحدائق تعرضت لنفس الموقف و أنا أسير مع إبراهيم، طفلة تركض بشكل هستيري أمام المئات بلا مبالغة المئات من الناس عمرها يقترب من عشرة أعوام تركض و تصيح ماما ماما، مرت أمامي أكملت مسيري و أنا أراقبها من بعيد، لم يتصرف أحد! افترضت أنها تلحق بأمها و أنها تريد منها شيئا، ثم توقفت للحظة: " ولك إنه ال "Pluralistic Ignorance" أيها الجاهل الجمعي" عقلية القطيع.... ذهبت إليها "ضائعة عن أمك؟"... ردت و هي تلتقط أنفاسها "يا عمو منشان الله تساعدني مش ملاقية أمي"...
بمجرد أن عرضت المساعدةعلى الطفلة، وجدت الناس من حولي تهتم و أتت سيدة في الستينات للمساعدة و وجهتني بالذهاب إلى من يقيم عروضا للأطفال، نادى بمكبرات الصوت و انتهت مأساة الطفلة
الخير موجود في الناس في كل المجتمعات و هذا ما أثبتته الدراسات الإجتماعية لكن الظرف قد يؤدي إلى تصرفهم بغير مبادئهم و حبهم للمساعدة، لا تحكم على الناس، أحيانا قد لا تفهم دوافعهم و أسباب تصرفاتهم و الفرق أنه ربما يحدث أكثر من ذلك بكثير في بلادنا و لكنك للأسف ستجد آلاف المقالات عن جلد الذات و كيف قل الخير في قلوب الناس لكنك لن تجد من يدرس هذه الظواهر الاجتماعية من ناحية نفسية ليقدم حلولا و فهما لأسباب تصرف الناس....
أحسن الظن و اعمل ما تراه صوابا بغض النظر عن الجموع المراقبة لربما تنتظر فعلا بسيطا من أي شخص ليؤكد شكوكها و ما ترفضه الجموع في نفسها لكنها تفترض أن الناس من حولها توافق عليه.
تعليقات